آلام السيد صبري

عدد المساهمات : 13 تاريخ التسجيل : 21/04/2009

من الأدب التركي
الاستاذ جنيد السعاوي
ترجمة اورخان محمد علي

على بعد منزلين من منزلنا الصيفي في قرية (هركة) كان يوجد منزل صغير مثل كوخ .. كان منزلاً متروكاً من قبل اصحابه منذ سنوات . فقد تهدمت جوانبه وخربت وأصبح البيت مأوى للمتشردين.
في ربيع سنة 1991 رأينا قيام أصحاب المنزل بحركة تعمير سريعة له. وفي أوائل الصيف سمعنا انهم جاءوا بشخص كهل ومريض إليه .

ذهبت أنا وزوجتي لزيارتهم والترحيب بهم ... كان المريض – اسمه السيد صبري – شخصاً ضئيل الجسم وكان يريد – حسبما ذكرت زوجته – قضاء أيامه الأخيرة وهو يشاهد البحر ويسمع أصوات طيور النورس .

كان السيد صبري يذوب تدريجياً مع مرور الأيام ، ولكنه على الرغم من ذلك لم يكن يشكو ، وعندما يسأله أحد عن صحته يقول بأنه في صحة ولله الحمد ، وفي أثناء المسامرات القصيرة التي كنت اتسامر معه لم يكن يتحدث أبداً عن مرضه ، بل يتحدث عن ذكريات شبابه وعن ذكرياته في صيد السمك مع أبنائه . ولولا حالات الاصفرار والارتجاف التي كانت تنتابه أحيانا لما عرف أحد انه مريض .

في أحد الأيام التي زرته فيها طلبت مني زوجته أن أعينها على تقليبه على جانبه لوضع بعض المراهم على جروحه . وعندما قمنا بازاحة قميصه بكل بطء وعناية ، أبصرت الشيء الذي يجعل السيد صبري يرتجف من الألم وجعله في نظري بطلاً من أبطال التحمل والصبر ... كان لحمه قد تناثر في مواضع عديدة حتى بدت عظامه من خلال جروحه اللزجة .
لم يشتك السيد صبري في الأيام التي تلت الزيارة . وفي أحد الأيام أهديت له شريط مسجلة عليه رسالة

( المرضى) للشيخ سعيد النورسي[1]، فبدأ ينصت اليه ... أصبحت هذه الرسالة شفاءً معنوياً له ومغذيا لصبره البطولي . قال وهو يشكرني من أجل هذه الهدية الصغيرة :

- هذه الرسالة جعلتني أحب مرضي .. وكذلك أحب الموت والآخرة أيضا .
كانت آلامه تزيد في المساء .. كان الصوت الصادر من المسجل يصل إلى شرفة بيتي الذي كنت أدعو له فيه كان الصوت يقول :

- أيها المريض الذي لا حول ولا قوة له ! .... لا تبتئس! ... وأصبر!... مرضك هذا ليس مشكلة كبيرة لك ... بل قد يكون نوعا من الدواء ... لأن العمر عبارة عن راسمال يسيل على الدوام ويمضي ، فان لم تكن له ثمرة فانه عمر ضائع .. فان مضى في راحة وفي غفلة ، مضى سريعا جدا ، والمرض يقوم باستثمار رأسمالك هذا في مقابل أرباح كثيرة ... "

نحو أواخر الصيف بدأ صوت المسجل يصل الينا حتى الساعات المتأخرة من الليل وفي بداية شهر أيلول ( سبتمبر) اصبح المسجل يعمل طوال اليوم .. وفي يوم ممطر سكت هذا المسجل الذي كان موضوعاً فوق منضدة عتيقة وبين زجاجات الأدوية .. كان السيد صبري قد توفي . قمنا بدفنه في مقبرة عائلية في مدينة( أده بازاري) .

مر شتاء بارد ، وعندما هلَّ ربيع 1992 أُضيفت حجرتان إلى بيت السيد صبري ، وبدأت أصوات الأغاني تصدر من ذلك البيت ... كانت هذه الأغاني صادرة من التليفزيون، ثم أخذت مكانها أغاني من طراز أغاني الملاهي بصوت نسائي غليظ من أثر كثرة التدخين . كان أفراد البيت يلهون ويسمعون الأغاني المسجلة على الأشرطة .

وبينما كنت استمع إلى أصوات هذه الأغاني رغما عني وأنا جالس في شرفة بيتي سمعت بعض الجمل من ذلك التسجيل ( الذي أهديته إلى السيد صبري والذي أمده بالقوة على الحياة أنذاك) بعد انتهاء اغنية وقبل بدء الأغنية الأخرى :
-أيها المريض الذي لا حول ولا قوة له! ... لا تبتئس واصبر! ...كانت هذه الأغاني الموضوعة لتسلية السكارى قد سجلت فوق ذلك التسجيل حول الصبر ... ولو سمعها السيد صبري لمات مرة اخرى .

-------------------------------
- [1]رسالة المرضى:رسالة كتبها الشيخ سعيد النورسي شرح فيها كيف أن الله تعإلى يهب للمرضى الصابرين أجرا عظيما (المترجم)

رسالة سلوى المرضى وعزاء المبتلين من أعظم الرسائل في فلسفة المرض وهي مترجمة الى لغات متعددة ومذاعة وتضفي على قارئها السكينة والطمأنينة والايمان، أتمنى على كل مسلم أن يقرأها وخصوصاً المرضى، وأتمنى على كل من يعرف مريضاً من أقاربه وغيرهم أن يرشدهم إليها ومن عندهم والدة أو والدة أو أخ مريض فليقرأها عليهم لتنسكب في قلوبهم السكينة والطمأنينة وليقرأها هو لنفسه اذ هو بحاجة اليها لا سيما في مثل ظروف بلادنا العصيبة..

فرج الله عن الجميع بمنه وكرمه